
صاح العامل قائلاً: “الكوب ممتلئ عن آخره يا سيدي.”
أجابه المدير ببرود: “حاول أن تضع المزيد أيضاً.”قال العامل باستغراب: “لا يوجد متّسع، ماذا عليّ أن أفعل؟!”
ردّ المدير بصوت مرتفع ساخر: “قلت ضع المزيد ولا تتذمر مجدداً. عملك هو إبقاء الكوب تحت الصنبور فقط، لا داعي لملاحظاتك الثمينة!”
ثم ضحك باستهزاء.
صرخ العامل بحرقة: “هذا مجهود ضائع! لا يوجد متّسع في الكوب، وكل شيء يفيض ويضيع هباءً… إنني أحاول الحفاظ على موارد الشركة!”
قال المدير بجفاف: “هذه هي التعليمات، ضع المزيد وكفى.”استمر العامل بوضع الكوب الممتلئ تحت الصنبور، وهو على وشك الانكسار، تماماً كما كان هو. الغضب، والسخط، والصبر، والعجز، كلها تجمعت في داخله كما اجتمعت في الكوب الذي يحمله. لم يعد قادراً على احتواء ما فيه، تماماً كالكوب الذي يفيض بلا معنى.
وعندما انتهت الوردية، نظر إليه المدير نظرة طويلة، ثم صرف وجهه وابتعد، وكأن شيئاً لم يكن.جلس العامل يفكر، لكنّه لم يجد حيلة، فهو بحاجة ماسّة للعمل والمال.في الصباح، تكرر المشهد ذاته. حمل الكوب، وأمره المدير أن يملأه.
حاول أن يوضح له أنه لا يوجد متّسع، لكن المدير لم يكترث. استمر العامل في أداء عمله بهذه الطريقة لستة أشهر، حتى اعتاد الأمر. بات لا يبالي، وظهرت على وجهه علامات الحزن والتجهم.
وفي يوم من الأيام، زار صاحب الشركة القسم. رأى العامل الصامت الكئيب، يعمل بصبر قاتل، ممسكاً بكوب يفيض بالسائل الثمين، ويهدره بلا اهتمام.
قال صاحب الشركة للمدير: “هذا إهمال جسيم! أريد عاملاً آخر. هذا العامل ليس كفؤاً للحفاظ على موارد الشركة، فهو لا ينتبه حتى للكوب المملوء في يده.”
رد المدير مسرعاً: “إنه عامل مهمل! لطالما حذرته، وطلبت منه تغيير الكوب حين يمتلئ!”لم ينظر العامل إليهما، بل ترك الكوب بصمت، دون أن ينطق بكلمة.بدأ المدير بالصياح: “أنت عامل مهمل! تستحق الطرد حالاً! حذرتك مراراً يا مهمل!”لم يرد العامل.
لم يعد يهمه ما يقول، فقد أدرك أنه لطالما عرف قدراته، وخطأه الوحيد كان أنه سمح لشخص آخر أن يُملي عليه ما يجب أن يفعله.في ذلك اليوم،
قرر أن يبحث عن مكان آخر، حيث تكون بيئة العمل أكثر إنسانية وصدقاً، وأنه إن رأى شيئاً خطأ، فلا يجب أن يتبعه، مهما كانت العواقب.
وعندما عاد إلى منزله، قال لزوجته: “أعلم أنني ظُلمت، وأن الله سيرد لي مظلمتي عاجلاً غير آجل، لكنني أيضاً أعلم أننا بحاجة ماسّة إلى المال.”نظرت إليه زوجته بحنان وقالت: “أحبك، وأعرف من أنت، وأعلم أنك ستكون يوماً ما ما تطمح إليه. أنت مهندس موهوب، وأنا أعلم أنك قبلت هذا العمل فقط من أجل حاجتنا. معاً سنتجاوز هذه المرحلة ونصل لما نريد.”
كلماتها ودعمها له منحاه قوة عظيمة. في صباح اليوم التالي، أخذ سيرته الذاتية، وذهب إلى كل مكان فيه فرصة عمل، حتى حصل على وظيفة في تخصصه، وبمرتب ممتاز.
علم حينها أن كرم الله واسع، وأن لا أحد يملك أبواب الرزق، فصاحب الرزق والعوض هو الله وحده.أدرك أن لا حق يضيع، ولكل مجتهد نصيب، وأن المكان الذي لا يقدّرك، لا يناسبك.
وبعد عشر سنوات، رفض عرضاً من صاحب شركته القديمة الذي لم يستمع لصوت العامل حين احتاج لأن يُسمَع. أسس شركته الخاصة، وأصبح ينافس الشركات العالمية.
قال لزوجته:”بالأمس كنت مجرد عامل، واليوم أنا كل ما تمنيت أن أكونه… وذلك بفضل الله، ثم بفضلك أنت.”