التجريب في وضع المتلقي بين الوعي واللاوعي في المجموعة القصصية للكاتب السعودي حسين سنونة
بقلم: أمل رفعت
أول ما يقابل القارئ هو الغلاف، وعنوان العمل؛ هذان الركنان يدعمان التأثير على المتلقي، وفي غالبية الدراسات يتم التوقف قليلًا عند عتبة العنوان أولًا ثم الغلاف؛ لما لهما من تأثير على المتلقي، وها أنا مثل كافة المتلقيين أقف بدوري عند العنوان (أقنعة مِن لحم) وهو عنوان المجموعة وعنوان أول قصة، والمعروف أن القناع هو ما يوضع على الوجه أو ما يستتر به الوجه؛ إما لخوف من شيءٍ ما ويكون صاحب القناع هنا ضحية، وإما للقيام بعمل مشين وهنا يكون صاحب القناع هو الجاني، ولاستخدام القناع العديد من الأسباب الأخرى وكثير منها السياسية بالتاكيد، ولكن مما يُصنع القناع؟، وللإجابة على ذلك يجب معرفة إن كان هذا القناع ماديًا أم معنويًا، والقناع المعنوي غير الملموس هو ما يهمنا في هذه الحالة، وهو بالطبع ما عُرض في القصة الأولى، حيث كان القناع في البداية في رؤية عند البطل، حيث بدأت القصة بوجه كوجه الكلب، إنه وجهه في المرآه، والغريب أن زوجته لم تلحظ، ولا أولاده، ولا زملاءه في العمل ولا أي مخلوق، وكأنه كان في حلم، وحينما عاد البطل المجهول الاسم في القصة وكان إنسانًا عاديًا جدا، وهو ذلك الرجل اللطيف الذي يداعب زوجته ويجلس ليلعب مع أطفاله ويتناول معهم الغداء.
وجه الكلب هنا كان رمزًا لأمانته في موقف البنك، ونجده في صباح اليوم التالي وقد أصبح سعيدًا لعودة وجه إلى طبيعته، وقد وصفه المؤلف عن طريق زوجة البطل بأنه وسيم، وله أنف طويل، شعره ناعم، إذًا ربما كان التأثير نفسيًا لضغط الحياة من حوله، ولكن المدهش هنا أن زوجته حينما دخلت عليه في اليوم الذي عاد وجهه فيه إلى طبيعته؛ اندهشت من تغير وجهه وصرخت: “ماذا حدث لوجهك” وكأننا أمام مشهد درامي مقسمًا إلى نصفين أحدهما كان حلمًا والآخر حقيقة، لكن أهمهما كان الحلم؟
هذا المشهد النفسي كان مؤثرًا جدًا، وله العديد من التأويلات، ولكن عنوان القصة قد يكشف لنا السر، فقد تناولت القناع فقط وهو أول جزء من الأسم (قناع من لحم) إذًا فالقناع هنا يتكون من اللحم، وهذا هو المفتاح الذي أهداه المؤلف للمتلقي، ورماه في طريقه وكان يجب أن يتذكر طوال القصة أن القناع من لحم، وهذا في رأيي يؤكد التأثير النفسي للبطل سواء انعكس عليه في صورة نفسية نتاج ضغوط الحياة، أو انعكس على رؤية الزوجة له إن كان هذا الجزء يقع تحت طائلة الحلم، فنحن في مرحلة بين الوعي واللاوعي، ومن هنا تبدأ روائح التجريب تفوح وتعطي نكهة مختلفة للنص الواسع الرحيب محتملًا التأويلات كما يعطي المساحة الكافية للإسقاطات المختلفة والتي سوف تتبين لنا في باقي نصوص المجموعة.
سرعان ما أحالنا العنوان للنص الأول ولكن بالطبع لن ننسى الغلاف، وهو لوحة فنية بسيطة الألوان والخطوط، عميقة المعنى والقراءات، فنرى في المساحة البيضاء مجموعة من الوجوه الورقية معلقة على حامل من الدماء المتناثرة في مساحة ضيقة، قد نراه بعين أخرى ليس معلقًا ولا رأسيا بل ممددًا في وضع أفقي، فهي سريالية الفن التجريدي وهو نفس روح السرد.
نرى في قصة (ملك الموت لا يتكلم العربية) جرأة الكاتب في نقد الواقع العربي بكل تحدٍ لهذا الواقع الأليم ، وقد نجح المؤلف في اختيار العنوان المناسب جدًا لهذا النص، وصدق حدثي منذ قراءتي للنص الأول، فهو يُعري السياسات العربية، ويرى أن الموت متوقف على اللغة العربية وحدها التي يتحدث بها المواطن العربي الموجوع. عبقرية العنوان بلا شك تؤثر أيما تأثير على المتلق.
(وكان يريد أن يعيش ليرى الوزير محترماً في مكانه، بدل أولئك الذين أصاب الكرسي جلودهم بالقرح من كثر جلوسهم، ورؤساء العالم يعملون على إيقاف الحروب والدمار.) لو نظرنا إلى المقطع السابق لفهمنا أن المؤلف إستطاع استخدام الموت في هذا النص كمعادل موضوعي للمواطن العربي صاحب الآمال العريضة والذي تثقله سياسات المصالح والفساد، هذا النص أقرب إلى الرسالة السردية التي لا تخلو من الحوار ولكنها موجهة إلى ملك الموت.
قصة (ترانيم مواطن لا يتحرك)، تبدأ القصة ب(هكذا اتخذ المواطن قراره، وكان هذا القرار أمرًا مسلم به، وجاء هذا الاستسلام بعد فقد المواطن للأمل، إنه ساكن لا يتحرك، ولا يملك حتى قرار السكون والتشبس بمكانه، حيث الصمود عاليا وربما الموت واقفا.)
تتوالى الإسقاطات المجتمعية في القصة، فالمشهد والرؤى ملتهبة ومتلاحقة؛
فالمواطن الواقف في علاه لا زال يتمسك بتمرده على كل ما يرفضه.
أخيرًا تأتي النهاية التي تحتمل التأويل، فهل سكون المواطن منذ 1400عام رفض أم خنوع؟
_ من الملاحظ الدقة في اختيار العناوين التي توحي بالكثير، وتشوق القارئ ومنها عنوان قصة(أشتاق للعناق فأستيقظ) وقصة (كوري في تاروت)، وأيضًا قصة (يأكلون الهواء) والحقيقة كل العناوين تحوي في طياتها الإسقاطات وتعطي مفاتيح للقصص.
نرى في هذه القصة صاحبة العنوان المميز(أشتاق للعناق فأستيقظ) الخوف والقلق من كل شيء والمواطن المسكين هو بطل كل القصص، فتارة يلعب المؤلف على وعيه السياسي، وتارة أخرى يلعب على وعيه الاقتصادي وأخرى على خوفه من أن لا يجد قوت يومه، أو يعيش حتى في المستوى الذي وُجد عليه وهو نفس المستوى الذي يهبط كلما تقدم في العمر عكس كل من هم في المراكز الهامة بالطبع.
تدور القصص حول محور واحد، ومواطن واحد كنموذج لشعب بأكمله، بل أمة بأكملها؛ فهذا النموذج يعيش كل المآسي التي تقع على جميع المواطنين، كما تلعب القصص على وعي المواطن الذي يدرك بدوره كل ما يجري من حوله، وكيف لا يعلم وهو المفعول به دائمًا من المؤسسات العليا، بل جميع المؤسسات، والمؤلف يلعب بالواقعية ويدور حولها؛ ليصورها لنا بمشاهده التي تقطع السرد، والواقع هنا واقع نقدي ينقله لنا المؤلف، وقد نجح في ذلك، وقد ظهر ذلك في قصة (صرخة طينية)، وهي قصة مواطن يصف كيف يطمع الجميع في راتبه المتواضع، والجميع هنا هم أهل بيته ومَن حوله ممن يحصلون منه الفواتير، ومن هنا نسمع الصرخة في عنوان القصة، ولكن كيف وصفها الكاتب بأنها صرخة طينية؟ بالتأكيد جاء الطين من الحفرة التي كان يضع المواطن رأسه فيها، وتشعره بارتياح، وهو من حفر حفرته، فبتعبير جاء على لسانه أنه كعربي إن لم يُصفع؛ بحث عمن يصفعه، وهنا لخص كل معاناته في مقولته تلك، أو تصوره، فهو المواطن الخائف دائمًا على من يحب وخائف ممن يحب، وهي واقعية الحال في جميع الأحوال.
الحقيقة أن هذا التوحد السردي الذي يُطل برأسه من بدايات القصص يوحي بتشابه القصص، بالرغم من تعدد العُقد التي تدور حولها وتخرج منها شبكة عنكبوتية؛ يشبه هذا الهدم والبناء البنيوي بالرغم من التجريد في داخل النصوص، كما أن السرد في بعض القصص يوحي بالتقريرية وتَوقع النتيجة، ويرجع ذلك للتشابه التجريدي، وهذا ما أوحت به بداية قصة (مجرد رسالة من عجوز) ولكن بعد بضعة أسطر من المحاورة مع القارئ نجد أن الوضع اختلف ولكنه لا زال يدور في فلك المعايشة المجتمعية في ظل الظلم الواقع على البشر، كما نجد أن المشهدية في القصص تلعب دورًا هامًا في النصوص التي تأخذنا في كل اتجاه كي نتعايش كمتلقيين مع النصوص.
_من الملاحظ أن التواريخ تلعب دورًا تعريفيًا هاما وتوحي بإسقاط أحداث تلك التواريخ على الوقت الحاضر، فالأرقام والتواريخ تعد رمزًا هامًا في السرد الواقعي .
إذا تناولنا النهايات؛ نجدها تأتي منخفضة الدهشة وهذا ليس عيبًا؛ فالمؤلف كما ذكرت ينقل واقعا نقديًا.
عودة إلى القصص؛ نجد أن (إشهار جوع) قصة جاءت على نفس الوتيرة؛ إنه مواطن جائع يُحبس لأن كل جريمته أنه ينظر إلى الطعام فحسب، أما قصة(اتصال مائي) فقد بدت مختلفة تمامًا عن سابقتها، إلا أن السياسة المبطنة ابتلعتها بالتأكيد، ولكن يوجد إبتكار بالقصة، فالبطل يخمن المتصل به وهو تحت ماء الاستحمام، ويبدأ في التخمين، فقد تكون المتصلة فلانة صاحبة الرواية التي تفتقر إلى مفهوم الرواية، ويعرض كيف تقبل دور النشر في سبيل المال إلى نشر أي شيء يفتقر إلى الجمال الأدبي، وهكذا حتى يصل تخمينه إلى أن المتصل هو الرئيس الأمريكي، وهكذا تُعرض القضايا المختلفة من خلال التخمين، وهي لعبة أعجبتني كثيرًا، وهذه القصة تحتاج إلى متلقٍ مميز، كما جاءت المفارقة في النهاية؛ لتُخرج ذلك المتلقي المسكين من المشكلات التي تواجهه هو شخصيًا بشكل يومي، وقد يبتسم حينما يعلم مَن المتصل؟ ولماذا اتصل؟
أما قصة (فلس.. طين) قصة تناول فيها المؤلف قضية فلسطين المحتلة بطريقة طريفة تبدو من تقسيم الاسم في العنوان، استخدم فيها المدرسة كمؤسسة تربوية بما فيها من مدرسين وطلبة ودروس؛ كمعادل موضوعي لعرض القضية وآراء أصحاب المذاهب المختلفة بعد مرور العديد من الأعوام، ومنهم الإسلاميين، والإمبرياليين، والشيوعيين وغيرهم، والمعادل الموضوعي هنا(المدرسة) خطير جدًا وبه العديد من الإيحاءات، وحتى رأي المؤلف نفسه ظهر في النهاية التي يشكو فيها البطل من شعوره بحجر في يده يريد أن يلقيه على الأشرار، والحجر هنا أراه رمزًا من ضمن الرموز القليلة التي استخدمها المؤلف في سرده القصصي.
_ قصة (اسمي وأسماؤهم) لها نهاية مميزة، فكل قصة لها طعم فريد بالرغم من التشابه بينها، كذلك قصة (تقمص) لها نهاية بها سخرية، وهي السخرية من الواقع، وهو نوع من التمرد على هذا الواقع، جاءت بعد ذلك قصة (الحب يجب ما قبله) محملة بالرومانسية؛ لتخفف وطأة الواقع الأليم، فبالرغم من رومانسية القصة إلا أن المفارقة تأتي من واقعيتها.
وهكذا يبدو أن المؤلف بات مشغولًا بهموم الأمة العربية ومشكلات المواطن العربي، وفي إرادة معلنة أنه يريد له الأفضل لأنه يستحق، ومن هنا يتضامن القارئ بالتأكيد مع المؤلف بدون صوت معلن، ولكنه تضامن خفي مثل الإعلان الخفي للمؤلف تمامًا.