
حين أقرأ الشعر أخرج عن كل مألوف وأبحث في حنايا الكلمات عن معنى مستتر, فمداد الشعر ليس كأي مداد, نبعه ومصدره أنين الحروف في القلب فتسري في العروق مع كل زفير وشهيق. هذا ما شعرته وأنا أقرأ شعر “كريم معتوق” في ديوانه “هذا أنا”. اخترت قصيدتين من الديوان وهما “محاولات” و”هذا أنا” لأبحث فيهما عن الحزن وما يمثله الحزن عند كريم معتوق. تطل علينا القصيدتين من أديم الحزن والذي هو رفيق قديم عاش في ظل القصيد فأصبح جزءا من الحكاية وخيم على المعاني والصور فكان صنو الروح والفؤاد المتقد بالشعر
يا وجه أحزاني تبدلت الوجوه وأنت مازلت الأليف على رفوف الانتظار
نرى الحزن رفيق يألفه الشاعر حين تتغير وتتبدل الوجوه, فيبقى هو دوما في صحبته. ومن مفرداته “السهر” و”الليل” وحين يمضي الليل وأنسه يواجهه “الصبح” بوجه غير وجه الليل وإن جاءه بشوق “تنحنح” و”استدار”. يستمر الحزن فيلقي بظلاله على كل شيء حتى الخيال
لا شيء يغريني بأخيلة سأنشرها
إذا ما كان وجه الحزن دائرة
ووحدي في المدار
صار الشاعر يدور في فلك الحزن وكأنه كوكب وحيد يدور في ذلك المدار. حين يحاول الفرار منه يصبح ذلك عبثا فلا الضحكات تضع له نهاية, بل إن الضحك يوصف بالحماقة ويصير البكاء هو مبتدأ الغضب. وفي الصباح “أحزاننا تمد لنا يدا” فيبدأ الصباح “بتكشير” وبائع الصحف يبيع الحزن في جرائده “وتبيعنا حزنا ولست به طرف”.يطل علينا الحزن في قصيدة “هذا أنا” في البداية حين يقول: “حزني أعز علي من فرحي ومن أعيادنا”. بل إن الشاعر يطلب من حبيبته أن تغيب عن ناظريه, فالحب لا يغيره بعد المسافات, فالبعد يزيده اتقادا ووهجا
غيبي...
لأنك كلما تنآى المسافة بيننا
أدري بأنك لي أنا
وفي غياب المحبوبة حزن لكن الحزن لديه أفضل من الفرح, فالشوق يزداد في الغياب لذلك يطلب منها الغياب. إن اقتران الحزن والشوق والغياب بحالة شعورية تجعل من اسم المحبوبة مادة تختال في القصائد وإن لم يذكره مباشرة. وحين يشتد به الشوق يقول للحبيبة إن الحزن أصيل في حبه وصنو لا يفارقه.
حب بلا أكدار ليس يثيرني
حب بلا أحزان ليس يثيرني
فلتبصري ما تصنع الأحزان في شعري هنا هذا أنا
إن الحب والحزن مقترنان في حالة الشاعر منذ البداية. إنه حب حتى الموت, كائن يحيا بصدره إن غابت المحبوبة أو دنت
مهما أكابر عنك ألقاني أحبك
غاب ظلك أو دنا
هذا أنا
حين يُطرح السؤال لماذا الحزن؟ ببساطة لأن الحزن هو ما يميزك كإنسان عن غيرك من الكائنات التي لا تعرف الحزن. الحزن يفتح آفاقا للروح كي تجد بابا ليفهم نفسه ويفهم الآخرين. إنه بوابة يدخل منها الألم فيعرف أن يتعاطف مع المحزونين والمكروبين والمتألمين في كل زمان ومكان. عندما يغمرك الحزن تشعر به جيدا فهو كالموجة التي تعبرك لتترك الأثر.