قصة قصيرة ” الشمس تغرب راضية” للكاتب محمد عباس داوود

الشمس تغرب راضية

شقت الشمس السوق كعادتها كل صباح  ، ألقت بحملها من الضياء على العربات الخشبية الصغيرة المتراصة ، ووقفت على البعد تنتظر حركة البيع والشراء ، غير أن شيئاً لم يحدث ، بدأت تتسلق الأفق متمهلة ، قلقة مما يجري ، إذ لم يحدث في تاريخ السوق أن توقفت حركة البيع  ، حتى في اللحظات التي يداهم فيها عسكر الإزالة السوق يطير الباعة والبائعات إلى الأزقة والحارات  ، يستغرق هذا وقتاً ثم ما تلبث الغمة أن تزول ويعود الأمر الى ما كان عليه . يهرول الباعة عائدين إلى حيث يفرشون متاعهم، وينادون على بضاعتهم ضاحكين، كأنه لم يحدث شيء يعكر صفاء الكون.

اليوم الأمر اختلف!

الباعة يرفضون البيع، يجلس كل منهم بجوار عربته صامتاً، ينبئ صمتهم عن أشياء تمور في الصدور لا يفصحون عنها، تبدو أثارها في تأجج النيران في أعينهم وانقباض قسماتهم وتقطيب جباههم، غير أن احداً لا ينطق بحرف.

حتى البائعات اللاتي يفترشن الأرض في أول السوق، تجشمت كل منهن مشقة السفر من قريتها حاملة على رأسها الطست الممتلئ بالجبن والبيض والقشدة لتجيء إلى السوق، لا لتبيع كما جرت العادة، بل لتجلس هكذا صامتة تشيح بوجهها أو تشيح بيدها رافضة البيع أو الحديث أو حتى تبرير الأمر.

التهبت عين الشمس غضباً وهي ترى الأمر يطول، اعتلت قبة السماء ووقفت في المنتصف ترقب الأمر.

قال السيد محدثاً سلامة همساً: إلى متى؟

أشاح سلامة بيده: إلى أن ينتبه لنا أحد 

تساءل السيد متوجسا ً: وإذا لم ينتبه؟

حدق سلامة في عينيه مؤنباً: الموت جوعاً أفضل من الموت ذلاً.

………..

ألمّت الشمس بشيء من الأمر، خفت حدة لهبها ومالت عن قبة السماء قليلاً جهة الغرب، هبت نسمة حانية على السوق، طافت بوجوه من فيه وصدورهم تهدئ من خواطرهم وتلطف من نارهم التي تكاد تثب من العيون.

قالت خديجة وهي تجلس إلى بضاعتها من الجبن والبيض: ما فائدة كل هذا؟

كانت أم محمد محمرة الوجه تدير عينيها محاولة التشاغل بمراقبة الوجوه والحركات من حولها، لم تعتد الصمت، ولم تجلس في حياتها مجلساً كهذا، بضاعتها أمامها والزبائن حولها ومع هذا لا بيع ولا شراء، وهي التي تمتنع وتجلس مغلفة بالصمت كتمثال من حجر لا يملك إلا عينين تدوران حبيستان في محجريهما!

قالت وقد شعر ت بأنها فرصة لكي تنفث عن نفسها ببعض الكلمات: 

  • وهل أرضاك ما حدث؟

همست خديجة: بصراحة، في البداية تحاملت عليها 

– خشيت ِ على نفسكِ من انتقام البرعي؟

– خشيت على السوق كله

– وهي؟

تفجرت ينابيع الدمع في عيني خديجة، همست وهي تحنى رأسها ألماً:

– ظٌلمت المسكينة من الجميع في أول وفى آخر

أكملت أم محمد:

– ولما دافع حمدان عنها أوسعوه ضرباً وألقوا به معها خارج السوق.

مسحت خديجة خديها براحتي يديها وهي تقول: 

 – وكالعادة وقف السوق يتفرج، كائنات لا تحس ولا تعي!

اعترضت أم محمد: لكنهم أحسوا الآن.

أشاحت خديجة بيدها:

– بعد أن حدث ما حدث

ازداد وجه أم محمد احمراراً والدموع تتسابق للهطول من عينيها بعد أن حبستها طويلاً، حدقت خديجة في وجهها، قمر يشتعل بالمحاق، والدموع تزيده اشتعالاً.

كانت الشمس من عليائها ترقب مدخل السوق، احمرّت عينها غضباً، مالت ضيقاً وتذمراً إلى أدنى 

ارتفع صوت على البعد: إزالة

تحرك البعض لا شعورياً يريد الهرب، أشار إليهم آخرون بالوقوف والتزام الصمت مهما حدث. طارت الإشارة عبر السوق إلى الجميع دعوا العسكر يفعلوا ما يريدون، وقفوا في أماكنهم ينظرون إلى العسكر وبعضهم يمد مخالبه وأنيابه بقصد القبض عليهم، وبعض آخر يندفع إلى البضاعة بسيقانهم وأيديهم، يلقونها أرضاً وسط الطين والتراب، أو يصادرونها منهم في غلظة.

انتبه الضابط المصاحب للقوة إلى الأمر.

الباعة تعودوا أن يهربوا قبل قدوم الحملة، يحملون بضاعتهم ويطيرون إلى الأزقة والحارات، يطاردهم العسكر قليلاً، يتصيدون بعضهم وينتهي الأمر، أما الآن!

أمر جنوده بالتوقف، أشار إلى الباعة بالاقتراب 

أدار نظراته فيهم وبريق عينيه يشي بدهشة لسلوك لم يره منهم من قبل، رسم ملامح وجهه بالغضب، وصرخ فيهم بغلظة: – ما الأمر؟

تقدم سلامه إليه: كلنا نريد السجن 

حدق الضابط في وجهه، تركه إلى من خلفه مراقباً ملامحهم واحداً واحداً وعلى مهل قاصدا فهم الأمر والتصرف بسرعة، غير أنه لم يصل إلى شيء.

عاد إلى سلامه الذي أكمل: البرعي داس رقابنا بحذائه.

تشجع السيد وتقدم قائلاً: والعسكر ضربونا وداسوا بضاعتنا بأرجلهم

اتجه الضابط إلى سلامه متسائلاً: من هو البرعي؟

ارتفعت أصوات نسوية حانقة:

– لن نبيع ولن نشترى إذا لم يعد حمدان وفاطمة للسوق 

هطلت دموع الشمس، التهبت عينها احمرارا، أخذت في الانحدار مبتعدة عن أشياء لا تحب أن تراها، امتلأت السماء بدموع الشمس، بدت السحب مغسولة بدموع حمراء تلون ذؤاباتها، وساد سكون مترقب.

شعر الضابط أن الأمر الآن لن تفيد معه غلظة، الحديث من أعلى سيزيد الأمر توتراً وعليه أن يكون بينهم ليفهمهم، لانت لهجته قليلاً وهو يوجه حديثه طالباً شرح الأمر بالتفصيل

تقدم سلامه إلى الأمام، قال إن البرعي أراد أن يلوث فاطمة الصغيرة، يلتهم بكارتها، فلما دافعت عن نفسها أراد أن ينتقم منها، وفي ذات الوقت يجعلها عبرة للباعة والبائعات، فأرسل إليها صبيانه لطردها من السوق، أراد البائع حمدان الدفاع عنها، أوسعوه ضربا وطردوه معها.

عاد الضابط إلى الوجوه المحيطة به، أدار فيهم عينيه، الأعين المنكسرة التي تعودت على الهرب والاختباء في جحور وسراديب الحواري والأزقة تبدو الآن متسعة الحدقات متأججة اللهب، ترفض الفرار وتتحدى الخوف، والألسنة التي كانت تتلعثم إذا جاء ذكر الشرطة أمامها صارت الآن تتصدى للعسكر وتطالب بالقصاص!

تركوا البضاعة – رأس مالهم ومصدر رزقهم – للعسكر يفعلون بها ما يشاؤون، راغبين عن البيع مالم تعد فاطمة وحمدان الى السوق.

الأمر الآن حله في كلمة واحدة هي الفهم المخلص البعيد عن لعبة القط والفأر، ثم التفاهم معهم ومساعدتهم، وهذا لن يحدث إلا إذا خلع بذلة الضابط لبضعة لحظات وارتدى رداء القاضي ويحكم بالعدل!

دعا عسكره، أمرهم بإنزال البضاعة من العربات، بعدها أرسل البعض إلى البرعي لإحضاره فوراً، والبعض الآخر أرسلهم لاستقصاء أثر فاطمة وحمدان، ثم اتصل بالنيابة مطالباً المحقق أن يحضر فوراً إلى السوق.

قبل أن تنسل الشمس وراء الأفق ماضية في طريقها المعتاد   أرسلت طرفها نحو السوق، تابعت ما يجرى، تألقت عيناها رضا، ومضت!

أضف تعليق