الادب الساخر
بقلم /ياسر قطامش
من مقدمة ديوان
القلب في ورطة بين ليلى وبطة
يعتبر معظم الأدب الساخر في العصر الحديث، وكذلك أدب النوادر و القفشات من أدب الندوات والمجالس التي كانت تعقد في البيوت و السرايات والمقاهي مثل ندوات قهوة المضحك خانة الكبرى بشارع الخليفة بالسيدة، وندوات سيد قشطة بقهوة بلدية بحى الدرب الأحمر، وندوات قهوة البوسطة (متاتيا) بالعتبة الخضراء، وندوات قهوة الكتبخانة أمام مبنى دار الكتب القديم بباب الخلق، وندوات أمير الشعراء أحمد شوقى في محل صولت الحلواني بشارع فؤاد مكان محل شيكوريل حاليا)، وندوات بار اللواء أمام مبنى جريدة
الأهرام القديم بشارع مظلوم بالقرب من باب اللوق، وندوات أدباء العروبة في سراى إبراهيم دسوقى أباظة باشا بالعباسية، وكذلك ندوات قهوة أفندية بالأزهر، وقهوة الفيشاوى بالحسين، وقهوة عبد الله
بالجيزة. ولعله من المحزن حقا أن معظم ما دار في هذه الندوات من نكت ومداعبات ونوادر وقفشات وشعر ساخر لم يجد من يهتم بجمعه وتدوينه، وقد تبدد هذا الكنز الأدبي الفكاهي تماما بوفاة أصحابه الذين – للأسف – لم يكونوا هم أنفسهم حريصين على تسجيله، ولو تم ذلك لأصبح عندنا موسوعة عصرية حديثة من الأدب الفكاهي في حجم كتاب الأغاني للأصفهاني الذي يقع في عشرين جزءاً من الحجم الكبير.
والآن يحق لقارئ هذا الكتاب أن يسألني : لماذا اتجهت إلى الشعر الساخر ؟ وللإجابة على ذلك أقول: إننى لم أكن أعلم عندما بدأت هوايتي للشعر منذ ما يزيد على عشرين عاماً بأنني سينتهي بي المطاف شاعراً ساخراً، فقد كانت بدايتي رومانسية حالمة تارة، وحزينة متشائمة تارة أخرى، وقد تأثرت أيما تأثر في هذه الفترة بالشعراء الرومانسيين والمتشائمين من مدرستى أبوللو وشعراء المهجر أمثال أبي القاسم الشابي وعلى محمود طه وإيليا أبي ماضي وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة … أى أن رحلتى مع الشعر بدأت بالكآبة
والحزن. وأذكر في هذه الفترة أننى كنت أقتطع من مصروفي اليومي بضعة قروش أدخرها لشراء دواوين إبراهيم ناجي الرومانسية والنظرات والعبرات للمنفلوطي الذي بهرني بأسلوبه الرصين وموضوعاته الحزينة الحالمة، وما زلت أذكر عندما بهرتني قصيدة أبي العلاء المعرى
في رثاء أحد أصدقائه :
غير مجد في ملتي و اعتقادی نوح باك ولا ترنم شادی
فكتبتها بخط جميل وعلقتها في مكتبتى وأنا حينذاك في الصف الثاني الثانوي، مما جعل أمى – أطال الله عمرها – تعاتبني برقة قائلة : لماذا هذا الحزن والتشاؤم يابنى ألم تجد سوى هذه القصيدة الحزينة
لتعجبك كل هذا الإعجاب؟
ومضيت على درب الكآبة حوالي عشر سنوات، ثم طرأت على خريطتي النفسية أعراض غريبة، فقد كنت أبدأ القصيدة رومانسية لأجدها تنقلب مني – بتلقائية شديدة ودون أى قصد ودون أن أشعر –
إلى قصيدة ساخرة !!
حاولت أن أقاوم وأن أسبح ضد التيار، ولكني لم أفلح وتحضرني في هذا المقام قصة طريفة لعملاق الكوميديا نجيب الريحاني الذي كان يتمنى في بدايته الفنية أن يكون ممثلاً تراجيديا يستدر دموع الجماهير مثل جورج بك أبيض، ولم يدر بخلده وقتها أنه سيكون ممثلاً كوميديا في يوم من الأيام، إلى أن كانت الصدمة التي عکست خط سيره الفنى عندما صعد يوما إلى خشبة المسرح ليؤدى
دور العجوز «برجيه في مسرحية خلى بالك من إميلي»، وبدلاً من أن يبكى الناس – كما هو المفروض من الدور – إذا بهم يضحكون، فأخذ الريحاني – كما يحدثنا في مذكراته – يتلفت حوله لعل أحداً خلفه يضحكهم، ولكنه لم يجد أحداً وتأكد بذلك أن الناس يضحكون عليه، وفى هذه الليلة بدأ الريحاني يراجع حساباته، وتأكد أنه خلق ليكون كوميديا وليس تراجيديا .
وأستطيع أن أقول إن ما حدث للريحاني تقريباً حدث لي، فبدأت اتجاوب مع تيارى النفسي الجديد، ولم أجد أي غضاضة في ذلك مادام يتم بتلقائية وبساطة ودون أي تكلف منى، ولعل السبب في هذا الانقلاب الشعرى في رأيي يعود إلى عدة أسباب، منها: ميولى النفسية منذ الطفولة، حيث كنت أحب الفكاهة وأحفظ مئات النكت وأرددها في مجالس الكبار الذين كانوا يعجبون بها ويسألونني دائما
عن آخر نكتة، بالإضافة إلى عوامل وراثية حيث كان أجدادي وأعمامي وأبى من عشاق الفكاهة، وعلينا ألا ننسى أن طاقة الحزن والتشاؤم التي شحنت بها نفسى في المرحلة الرومانسية هي التي أمدتني بوقود السخرية فيما بعد، والدليل على ذلك أن معظم الساخرين الكبار كانوا من البؤساء الذين عانوا في الحياة ولديهم
رصيد نفسي كبير من الحزن والتشاؤم مثل عبد الله النديم، وإمام العبد، وعبد الحميد الديب، وكذلك مارك توين و برنارد شو وغيرهم. ومما شجعنى أكثر على كتابة الشعر الساخر ما وجدته من
تشجيع وإقبال الجمهور الندوات على شعرى الفكاهي، وكذلك إعجاب الكثيرين بأشعارى الساخرة التي تنشر بالجرائد والمجلات المصرية والعربية. ومن الملاحظ أن الناس في عصرنا الحالي انصرفوا كثيراً عن الشعر بسبب الحداثة التي جعلت الشعر غامضاً مبهما بلا معنى ولا طعم، واتجهوا إلى ألوان أخرى من المتع الحسية التي لا تتوافر في الشعر، مثل أغاني الفيديو كليب ومباريات الكرة، وألعاب الكمبيوتر والفيديوجيم والأثارى ومسلسلات التليفزيون والقنوات الفضائية .. وإن كان السبب الأهم هو افتقار عامة الناس لملكة التذوق بسبب جهلهم باللغة العربية من جهة، ورداءة النماذج التي يقرءونها أو يسمعونها أو يدرسونها في المدارس والجامعات من جهة
أخرى .
أما الشعر الساخر فما زال له جمهوره من القراء والمستمعين، مما شجعني على أن أمضى قدما في طريقي، خصوصاً عندما أحسست أن ميولى النفسية بدأت ترتاح إلى السخرية ولا تجد سبيلاً لتفريج طاقاتها إلا بها، وإنني أشعر كثيراً بالراحة عندما أكتب شعراً ساخراً في أية مشكلة أو موقف كان يؤرقني ويضايقني، وهذا في رأيي هو
الجوهر الفلسفي للشخصية المصرية التي استطاعت أن تقهر أعتى الظروف وتواجه أكبر المشاكل بالسخرية والنكتة والقفشة، وبفضل ذلك استطاع المصريون أن يواجهوا أشد الأزمات ويتغلبوا عليها، بدءًا
من عهد الفراعنة ومروراً بعهد قراقوش حتى نصل إلى هذه الأيام، ومن العجيب أن يفنى الحكام المستبدون وينسون تماما في حين تبقى
النكتة التي ارتبطت بهم وسخرت منهم وقتلتهم – دون أن تسيل قطرة من دمائهم – خالدة على مر السنين تتناقلها السنة الأجيال.
…
مما سبق استعراضه يتضح لك عزيزى القارئ أن الأدب الساخر عامة – والشعر الساخر على وجه الخصوص – لا يقلان أهمية عن الأدب الجاد والشعر الجاد، بل هما يفضلانهما في كثير من الأحيان، لأن النفس البشرية تسأم من الجد وتلتمس في السخرية ما يخفف عنها وينسيها مشاكلها وآلامها، ولهذا نجد شاعراً عملاقا بقامة أمير الشعراء أحمد شوقى يضمن الجزء الرابع من ديوانه العديد من القصائد الفكاهية الساخرة مثل محجوبياته التي كان يداعب بها
صديقه الدكتور محجوب ثابت ومنها:
براغيث محجوب لم أنسها ولم أَنْسَ مَا طَعِمَتْ من دمى تَشُقُّ خراطيمها جوربي وتنفذ في اللحم والأعظم و تبصرها حول بيبا الرئيس وفي الشاربين وحول الفم وبين حفائر أسنانه مع السوس في طَلَبِ المَطعم
بل إننا نجد عملاقا آخر هو المرحوم عباس محمود العقاد، المفكر
. ببيا الرئيس: هي البايب التي كان يدخنها الدكتور محجوب الذى أطلق عليه أصحابه لقب
الرئيس تشبيها له بالرئيس ابن سينا الطبيب العربي الشهير .
وصاحب العبقريات، لا يخلو مجلسه من نكاته وقفشاته وتعليقاته اللاذعة، بل كان أيضاً يكتب شعراً فكاهيا مثل هذين البيتين الآتيين، وقد كتبهما لصديقه طاهر الجبلاوى الذي تخلف عدة مرات عن حضور صالونه الثقافي – الذى كان يعقده كل يوم جمعة بمنزله بالقرب من روكسي بمصر الجديدة – بسبب ظروف العمل التي اقتضت نقل الجبلاوى إلى سوهاج … فيقول له العقاد في بطاقة بعث بها إليه :
إن يوم السبت القريب بطالة فاركب القطر» عاجلاً وتَعالَه سوف تلقى إذا حضرت إلينا أكلة حلوة تسيل «الرياله»
وفي هذا الديوان يسعدني عزيزي القارئ أن أدعوك إلى مأدبة فكاهية أقدم لك فيها حوالي ستين طبقا من أطباق الفكاهة المشطشطة أقصد ستين قصيدة ساخرة) .. فإن كانت الأطباق شهية والقصائد دسمة فهنيئا لك. وإن لم تكن وأصبت بعسر الهضم ووجع البطن والرأس فعليك بتعاطى بعض حبوب المغص مع بعض المهدئات والأسبرين، ثم ادع على ما شئت بالضياع والصداع حتى تطيب نفسا وتقر عينا وعوضك على الله .
المهندس: ياسر صلاح قطامش