جحا  في عيون  التراث الإنساني د. حنان الشرنوبي 

    

                                   

إذا أردت أن تتعرف على تراث البسطاء ،فعليك الاطلاع على موروثه الثقافي الذي يقوم في الأساس على الرواية الشفهية .

ومن أبرز الحكايات في تراثنا التي أصبحت بعد ذلك مضربًا للأمثال ..حكايات جحا ونوادره الفلسفية. 

بين الحقيقة والخيال 

تلك الشخصية التي تاهت الأقاويل حولها عبر التاريخ أهو حقيقة أم خيال ،ولعلنا عبر هذه السطور نحاول حسم الجدل  .

هو أبو الغصن دجين بن ثابت الملقب (جحا)،ذلك الرجل المثقف من قبيلة فزارة أيام هارون الرشيد.

وصلتنا نوادره وأغلب المصادر عنه ،من الآداب العربية الغنية بالفكاهات والطرائف الساخرة ،وانتشرت هذه النوادر عبر التراجم التركية ؛ومنها إلى لغات كثيرة منتشرة في العالم ؛فضُرب به المثل في الحماقة فقيل (أحمق من جحا) .

وأغلب الظن أنه أراد ادعاء الحمق ليكشف عيوب المجتمع ومثالبه ،وربما رماه المجتمع بهذه الصفة لأنه صادق مع ذاته ومجتمعه فيذكر الحقيقة ولا يفعل ذلك -في نظرهم – إلا أحمق.

والدليل على ذلك موقفه من السلطان الذي طلبه للاستماع لغنائه،وحين أخذ رأيه في صوته قال إنه سيء جدا ..فسجنه السلطان ،وبعد مدة أخرجه ليغني له ثانيه ويطلب رأيه ..فقام جحا من مكانه  طلبا  للسجن مما يدل على صراحته  التي وسمها الناس حماقة .

حجا مضرب الأمثال الشعبية 

ومن الأمثال التي يتداولها الكثير :

-ودنك منين يا جحا (أين أذنك يا جحا)؟

عندما سُئِل جحا عن أذنه فأشار بيده اليمنى من فوق رأسه إلى أذنه اليسرى البعيدة متخطياً أذنه اليمنى القريبة

على الرغم من أن أذنه اليمنى كانت أقرب إليه من اليسرى لكنه أراد اختيار الطريق الصعب لسوء تقدير منه؛ فأصبح يقال هذا المثل حين يقوم الشخص باللف والدوران عن عمد ويختار الطريق الأصعب بقصد المراوغة وعدم حل المشكلة.

-عد غنمك يا جحا؛ فيرد قائلا واحدة نائمة و واحدة قائمة و معني المثل أنهم طلبوا من جحا أن يعد لهم عدد أغنامه فيرد بتعجب واستنكار: أنهم اثنان فقط ليس أكثر .

و يضرب المثل هنا بقلة الشئ حيث من قلته لا يحتاج للعد فهو معروف انه قليل للغاية.

-جحا أولىٰ بلحم طوره (ثوره) . قرر جحا ذبح الثور الخاص به مدعيًا أنه سيوزعه على الفقراء والمحتاجين، وبالفعل جمعهم عند منزله وبدأ يخطب خطبة كبيرة خلاصتها أنه كريم وسخي ويساعد الجميع. بدأ بعدها جحا يمر على كل فرد ويقنعه التخلي عن نصيبه في اللحم، فذهب إلى الشيخ وأقنعه أن لحم الثور مُر ولا يهضم بسهولة، وللمريض أن لحم الثور سيمرضه، وللسمين إنه ليس بحاجة للحم، وللشاب إنه قوي ويمكنه الانتظار بعد توزيع اللحم على الفقراء وفي نهاية اليوم، طلب من المدعوين الانصراف قائلا: «جحا أولى بلحم ثوره». فأصبح يتردد هذا المثل باستمرار عند الحديث عن الشخصية البخيلة التي تريد الحصول على كل شئ وتدعي الكرم وتظهرعكس حقيقتها.

-وعندما قيل له :يا جحا امرأة أبيك تحبك .رد مستنكرا:هي اتجننت ؟ 

كذلك هناك بعض العبارات التي بمجرد ذكرها يفهم المتلقي الغرض من التلميح والتعريض بها ..مثل :

-بيت جحا: وهي جملة صارت جزءًا من الحديث اليومي للمصريين ويقصدون به المكان الذي يتوه فيه كل من يدخله.

-مسمار جحا:وهي كناية عن الحجة الخبيثة والمكشوفة لمحاولة امتلاك أحدهم جزءًا ليس له الحق فيه من الكل . ولعل نادرة “جحا وابنه وحماره” من أشهر النوادر التعليمية لأجل تنشئة ابنه .

وتعبّر الجمل السابقة والعبارات  المكثفة عن سخريته من الواقع ممثلًا أحد أسرار جمال أمثالنا الشعبية.

ولقد حظيت المرأة -التي تمثلت في زوجته -بحظ وافر من مأثوراته المرويّة على الجانب المجتمعي أوالفكاهي؛فأبرز الجانب السلبي للمرأة عامة وزوجته خاصة .

فبعد أن ماتت زوجة جحا تزوج امرأة مات زوجها ، فكانت كثيرًا ما تذكر محاسن زوجها المتوفى ، وكان هو يقابلها بالمثل فيذكر محاسن زوجته المتوفاة ، ولكنه ضاق ذرعًا بذلك ، وفي إحدى الليالي وهي نائمة ، دفعها برجله فسقطت على الأرض ، فغضبت وشكت ذلك لأبيها ، فقال له جحا : أرجو أن تنصفنى، فنحن أربعة أشخاص تنام على سرير واحد أنا والمرحومة زوجتى ، وابنتك والمرحوم زوجها ، والسرير لا يسع أربعة أشخاص، ولذلك تدحرجت ابنتك من فوقه ، فما ذنبي أنا ؟

حجا بين المصريين

غير أن لجحا في أمثاله( المصرية )مذاقًا خاصًّا؛ وكأنه النسخة المكتملة المعدلة من بين نسخ عديدة شاعت في أنحاء العالم مثل النسخ( الفارسية والتركية والعربية )؛ذلك لأنه  يمثل في أذهان المصريين رمزًا للنادرة الحكيمة، كما أن أسلوبه الساخر سابق لوجود الشخصية نفسها في مصرحيث عرف عن الشعب المصري تهكمه  وسخريته من الواقع المرير على مر العصور  ..

ولقد أقبل كبار الكتاب والباحثين في التراث  على كتابة التآليف والمراجع حول شخصيته مثل عباس العقاد في مؤلَّفه “جحا الضاحك المضحك” ،وعبد الستار فراج في كتابه “أخبار جحا” ،وخليل حنا تادرس  صاحب “نوادر جحا الكبرى” ،ومن قبلهم ورد ذكره في ” أخبار الحمقى والمغفلين “لابن الجوزي ..والمصادر والمراجع عنه لا حصر لها ..

وكما قال عباس العقاد :”وسينشأ لجحا بعد ابنه هذا حفدة وأبناء حفدة، ولا نظنهم جميعًا قالوا – بعد كلمتهم الأخيرة باللغة العربية، أو التركية أو بسائر اللغات، فإنهم خالدون بخلود النفس البشرية بين كل قبيل”.

وهكذا سيظل المثل الجحويّ رمزا لفكرة ناقدة ساخرة عالمية وإنسانية قبل أن تكون قومية .

أضف تعليق