قررت أن أعود بعد سنوات لشقة أمي المهجورة. صدمني انقطاع الكهرباء . بالكاد قضيت ليلتي ..وفي الصباح ذهبت لشركة الكهرباء لأعلم سبب الانقطاع ،فلم يكن هناك سبب واضح..حتى أن فني الصيانة – كذلك- عجز عن التفسير ، تقدمت بشكوى إلى مديرة الشركة أطلب فيها حلا عاجلا ،تعجبت من أمري وإصراري على ذلك على الرغم من أنني لا أفكر بالسكن بها ؛لما فيها من تصدعات خطرة متفرقة في أرجائها..تحتاج لوقت وجهد كبيرين وقدر من المال أعجز عن ادخاره،خرجت من مكتب المديرة على وعد منها بأن النور سيسطع بعد ساعة في منزل أمي ..وما إن خرجت حتى رأيتها من بعيد ..تتقدم إليّ..نعم إنها هي.. أمي ..ليست ملامح تشبهها ،أو مشية متأنية كمشيتها،بل هي بكبريائها وإصرارها على عدم استعمال عصا تتوكأ عليها وإن كانت ستُيسر لها الأمر، تنظر حولها خشية أن تتعثر،تستند على الحائط أو على تلك السيارة لتصعد على رصيف مرتفع ، لم أصدق عيني التي لم تطرف لحظة ،وكأنها أرادت أن لا تغفل عن تلك البشرة ،الملامح ،النظرات ،الخطوات المتأنية ،العباءة الكحلية المطرزة التي أهديتها لها في إحدى المناسبات ،”ماما ” كانت صيحتي التي لم أسمعها من صوتي عند وفاتها ،وها أنا ذي أناديها بها الآن لحظة عودتها إليّ..صيحة تحمل اللهفة،الحنين،الأوجاع التي أعانيها بفقدها، صيحة تحمل الرجاء أن تبقى .لا أدري كيف تفجر ينبوع عبرات ظننته جفّ منذ زمن ..الآن سأقترب أحتضنها، أتشممها،أُقبّل ملامحها و يدها كثيرا،وستناديني باسمي المحبب إليها ،،سأسمع صوتها الدافيء العذب،، وأرى نظرة الدهشة لرؤيتي ، ثم فرحة تلمع بعينيها، وتسألني بعتاب حانٍ :فينك يا بت ، كدة متسأليش؟فأعتذر وأعدها ألا أفارقها أبدا ، تسامحني كعادتها ،ها هي تقترب ،لكنها لا تنظر لي ،أهرول ناحيتها لكن قدمي ثقيلة ، وكأنني فقدت كل الحواس إلا عيني التي امتدت لها ،فندائي لها لم يتعدَ حلقي،خطواتي لم تتجاوز مكاني،أسرعي يا أمي ..اشتاق لحضنك..هيا انظري لابنتك،أمي أمي ..اختلف الوجه.. بدأ يتلاشى بالاقتراب ،تبدلت الملامح كليا فلا شبه بين تلك المرأة القادمة ..وأمي ..لا تذهبي ..كنتِ أنتِ..وقفتُ في زاوية جانبية ،كطفلة تيتمت للتو،بكيت بعد أن فقدت السيطرة على جوارحي التي تنهنه معي، لكن أمرا تيقنت به،أن روحا تربت على روحي وتقول: صغيرتي …لستِ وحدِك .