صعدتْ الباص وهي تحمل على كتفيها عبء السنين، انحنى ظهرها كما لو أنه ينوء بثقل الذكريات. حدقتُ فيها وهي تتشبث بتذكرة صغيرة، كأنها طوق نجاة وسط محيط من النسيان. أفسحتُ لها مكانًا بجواري، فانهمر دعاؤها عليّ كالمطر، رطبًا ومفعمًا بالامتنان.كانت تمسك التذكرة بحذرٍ مبالغ، كما يمسك طفلٌ بلعبته الأولى، وقالت بابتسامة منهكة:”لا أريد أن تضيع مني… إن صعد المراقب وبحثت عنها ولم أجدها سيظنني سارقة.”صمتُّ للحظة، وقد فاجأتني كلماتها التي تسللت إلى أعماقي. تأملتُ وجهها الذي نحتت عليه الأيام خطوطها، هربت مني كل الكلمات المعبرة، ليت البعض ممن يسرقون البلد بالواضح ويقتاتون على آلام الآخرين، ينظرون لهاته العيون وهي تبحث عن مكان آمن بين ثنايا ملابسها لتخفي تذكرة الباص…، وتمنيتُ لو أن اللصوص الذين يسرقون البلاد بأكملها ينظرون إلى هذه العينين الخائفتين، إلى هذا الحرص الذي يتشبث بتذكرة لا تساوي أكثر من ثمنها.حين أومأتُ لها بإيماءة صغيرة، بدا وكأني قد حررت أسيرة من صمتها الطويل. انطلق الحديث منها كالنهر بعد انحباسه، وصارت كلماتها نافذة إلى عالمها الموحش.”أعيش وحيدة منذ سنوات…”قالتها وكأنها تلقي حجارةً صغيرة على سطح بحيرة صمتي، ثم أردفت بتنهدٍ عميق:”لدي ابن وحيد، يعيش بعيدًا مع أسرته الصغيرة. بعد أن تزوج، أصبحتُ منسية خارج حدوده. زوجي مات وترك لي طفلين، كنتُ حينها لا أزال شابة. رفضتُ الزواج، وكرّست حياتي لتربيتهما. كبر الولدان، لكنّ أحدهما رحل… إلى أرض غريبة احتضنته حيًا، وأبت أن تعيده إلا ميتًا. سكتة قلبية خطفته في ليلة كان يحتفل فيها بنجاحه ليصبح طبيبًا. الآن يرقد هناك، بعيدًا عن حضني الذي حمله يومًا.”تدفقت دموعها كأنها لم تعد تحتمل الصمت الذي طال. مسحتْ دمعة انسابت على تذكرة الباص، ثم تابعت بصوت مكسور:”أما الآخر، فقد أغلق هاتفه عليّ. أعيش في بيت خاوٍ، أجوب غرفه كما لو كنت أفتش عن ظل ماضٍ تلاشى. أحنّ إلى صوتهما، إلى خلافاتهما، إلى صخب الحياة الذي كان. الآن أنتظر رسالة عابرة منه، لعله يتذكرني… لعله يكسر هذا الصمت الذي يبتلعني كل يوم.”بينما كانت تحكي، شعرت أن كلماتها تعبرني، كأنها سهم طائش أصاب قلبي دون قصد. فكرتُ: كم أن الأماكن تصير باردة وفارغة حين يفقدها دفء الأحبة؟! الحنين… ذلك الشعور الموجع الذي يجعلنا نتشبث بأطياف الذكريات التي تلاشت، نستنشق عطرها الباقي ونحلم بعودتها.استفقتْ من شرودي بتنهيدة اخترقت مسامعي، ووجدتُ عيني تلتقي بعينيها. كانت نظراتها تحمل شيئًا غريبًا، مزيجًا من حزن وأمل، كما لو أنها، رغم كل الخسارات، ما زالت تحتفظ بشعلة صغيرة تضيء قلبها.تلك العيون… لم تكن مجرد نافذة تطل على العالم، بل كتابًا مفتوحًا بأوراق مطوية، تخفي بين ثناياها حكايات صامتة، يقرأها من يتقن فن الإصغاء للوجوه.وصل الباص إلى محطته الأخيرة نزلنا معًا، وقبل أن أدرك ما أفعل، وجدتُ نفسي أضمها إلى صدري. شعرتُ وكأني أحضن كل أوجاعها، أحاول أن ألملم شتات قلبها ولو للحظة. ابتسمتْ لي ابتسامة غامضة، كأنها تقول: شكرًا لأنك كنتِ هنا.ثم ابتعدت بخطوات بطيئة، تاركةً في قلبي شعورًا لا يشبه سوى أثر الحنين… حين يصبح عزفًا دائمًا في أرواحنا.