قصيدة البحر بين رامبو وبودلير بقلم أحمد فضل شبلول

في ديوان “أزهار الشر” للشاعر الفرنسي الشهير شارل بودلير (1821 – 1867) قصيدة بعنوان “الإنسان والبحر” يقول فيها: أيها الرجل الحر، أنت تحب البحر فالبحر مرآتك، تتأمل روحك فيهوفي تداول صفحاته بلا انتهاءوليست روحك أقل عمقا من أعماقه.وقد تأملت كثيرا هذه القصيدة، وخاصة هذا الجزء السابق الذي يعطي إيحاءات كثيرة. فالبحر هنا هو البحر الهادئ الصافي الشفاف، إذا اتفقنا على أنه بحر فعلا، والذي عندما ينظر فيه الإنسان لا يرى نفسه فحسب – كما رأينا في أسطورة نارسيس الذي عندما نظر إلى صفحة النهر رأى صورته فعشقها – وإنما يرى روحه ويتأملها، غير أن هناك من يرى أن المقصود بالبحر في هذه القصيدة هو “الحرية”.ومن وجهة نظري أن السطر “وليست روحك أقل عمقا من أعماقه” والعائد على الرجل أو الإنسان الحر هنا، جاء قويا جميلا، حيث يبرز الشاعر مدى العمق الروحي الذي يمتلكه الإنسان الحر.ومن وجهة النظر العلمية فإن أعمق بقعة سجلت حتى الآن في البحار والمحيطات، تقع تحت سطح المحيط الهادئ بنحو 11 ألف متر في أخدود عميق بالقرب من جزر الفلبين، غير أنه بطبيعة الحال لا يمكن قياس العمق الروحي للإنسان قياسا ماديا، وبهذه الطريقة العلمية، ولكنه مجرد تشبيه قوي جميل تعمد الشاعر من خلاله إبراز ما يتمتع به الإنسان الحر من طاقات روحية هائلة.وفي مقطع آخر من القصيدة نفسها يخاطب الشاعر الإنسان والبحر معا، فيقول:أنتما الاثنان في ظلْمَات وحذر:أيها الإنسان، لا أحد سبر أغوار هاويتك،أيها البحر، لا أحد يعرف ثرواتك الحميمة،كثيرا ما تغار، للحفاظ على أسرارك!أما الشاعر الفرنسي الشهير جان آرثر رامبو (1854 – 1891) فيقول في قصيدته المعروفة “السفنية السكرى” أو “القارب النشوان”:رأيت الشمس في الأعماق تملؤها بقع صوفية مرعبةوتلمع بإشعاعات البنفسج المستطيلة الجامدةالتي تشبه ممثلين في مسرحيات عريقة القدمبينما الأمواج تقعقع من بعيد كأنها تدحرج ألواحا من الخشب.إذا نظرنا وتأملنا في “إشعاعات البنفسج” وحاولنا أن نطبق عليها وجهة النظر العلمية، فإننا سنجد أن الإنسان كلما هبط إلى أعماق البحر يحس بزوال الضوء وتلاشيه رويدا رويدا. وأول ما يختفي أمام العين من أطياف الضوء هو الأحمر، فالبرتقالي، فالأصفر، فالأخضر، ثم يتغير لون الماء من حول الناظر، ويبدو البحر في حلة بنفسجية خافتة، ثم يعقب ذلك لون رمادي قاتم، ثم – بعد حوالي مائتي متر تحت سطح البحر – تسود الظلمات الكثيفة حيث لا يصل ضوء الشمس، وهي في أوجها، إلى هذه الأعماق.ولكن الشاعر ببصيرته الثاقبة للأشياء، يرى الشمس في الأعماق تلمع بالطيف الخامس للألوان، وهو “البنفسجي”. إنه الحس المرهف والبصيرة التي كان دائما يتحدث عنها رامبو في رسائله وأشعاره حيث يقول: “إن على الشاعر أن يكون بصيرا أو رائيا أو عرّافا، وأن عليه أن يصل إلى المجهول”.ويظل الشاعر مع البحر وتقلباته فيقول في جزء آخر من القصيدة:تتبعت، لأشهر ممتلئة، هياج هجوم أمواج الرصيف الصخريالشبيه بجنون البقر الهستيريرأيت المستنقعات الهائلة تهيج،يساقط الماء وسط رخاوات البحر وهدوئهوالبعيدون نحو اللجج ينهمرون كشلالاتثم ينهي قصيدته البديعة بقوله:ما عدتُ أستطيع الاستحمام في خـَـدَركنّ ونصالكنّأيتها الأمواج الزجاجيةأو أقتفي سبلَ السفن المشحونة بالقطنما عدت أقدر أن أعبر ساحات الفخر برايات وأعلام مرفرفةأو أسبح تحت أعين الجسور العائمة، الرهيبة.

أضف تعليق